أم كلثوم.. صوت عربي تنافست عليه أميركا وروسيا..
لم تكن أم كلثوم سيدة الغناء العربي فحسب، بل صوت وتراث فني تحول إلى رمز سياسي يتم استرضاؤه حتى تميل السياسة المصرية والعربية ومن ثم الشعوب العربية نحو اتجاه معين وتثير الغيرة بين دول كبرى، ولم يأت تفكير الحكومة الأميركية من فراغ عندما أوفدت الأدميرال بروف كبير الأطباء في مستشفى البحرية الأميركية إلى مصر لدعوة السيدة أم كلثوم للعلاج على نفقة الحكومة الأميركية في بداية ظهور مرضها عام 1952.
وبالفعل سافرت لتبدأ رحلة علاجها، مما أثار غيرة الاتحاد السوفياتي طيلة 6 سنوات حتى جاء عام 1958 ومعه دعوة للزيارة والفحص الطبي بالعاصمة موسكو، مما يؤكد أن كوكب الشرق رمز عربي مؤثر في حياة الحكومات والشعوب العربية، وجعلها تشارك بصوتها في دعم المجهود الحربي المصري والعربي عندما سافرت لباريس عام 1967 بعد النكسة وغنت على مسرح الأولمبيا أمام الرئيس الفرنسي شارل ديغول، وأرسل لها كلمته الشهيرة "لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا" ومنذ هذا التاريخ، ارتبط اسم مصر بأم كلثوم في أذهان الفرنسيين ويتردد صوتها في بعض مقاهي باريس الشهيرة. ولم تحاول كوكب الشرق أن تتغنى يوما بغير اللغة العربية التي أرسلتها بصوتها إلى كافة أرجاء المعمورة
كوكب الشرق رمز عربي مؤثر في حياة الحكومات والشعوب العربية،وعلى الرغم من شهرتها الواسعة وسفرها لكافة الأصقاع إلا أنها كانت لا تحب الظهور في وسائل الإعلام كثيرا وكذلك في الحفلات والمناسبات فمثلما وصفها الفنان هاني مهنى، الذي وقف وراءها عندما تغنت بلحن "ليلة حب" وقام بتسجيل لحن "حكم علينا الهوى" الذي لم يمهلها القدر أن تطرب به جمهورها على المسرح، بأنها ظاهرة لم تحدث ولن تتكرر، لأن المناخ العام في بنية أم كلثوم من المستحيل أن يتكرر ثانيا.
ويتذكر مهنى جلساته المتكررة معها في بداية مشواره الفني وكلمتها الشهيرة له "أن الفنان مثل الوردة النضرة الفواحة إذا اشتم عطرها كثيرا ذبلت سريعا"، وذلك تعقيبا على ظهور الفنانين المتكرر في الصحف والمجلات والتلفزيون، وكذلك في الحفلات والمناسبات.
وكانت أم كلثوم عميقة الثقافة في مجالات عدة، وعندما تتحدث نجد سيلا من المعلومات المتخصصة سواء في السياسة أو الطب، فأنا تعاملت مع فنانين كثر ولم أجد أحدا يشبه فكر أم كلثوم وعبقريتها الفطرية والفنية وانتقائها للكلمات والألحان وكيفية تقديمها للزخارف والحليات عند الغناء فعندما تستمع الست إلى لحن جديد من السنباطي على سبيل المثال "تكلثم" اللحن وتعطيه شخصية مختلفة وتضيف عليه جمالا يجعل من يستمع له في عالم آخر.
ويضيف مهنى أنها كانت تجد الوقت لسماع أعمال الفنانين والمطربين الآخرين، ولكنها كانت لا تحب أن تبدي رأيها صراحة حتى لا يؤثر على علاقتها بهم، ولكن كان أفضل صوت تحب سماعه عندما كانت تختلي بنفسها هو صوت فايزة أحمد، إضافة إلى أنها كانت تحب تسجيل الألحان بصوت السنباطي حتى تستمع لصوته فكانت تحب صوت السنباطي بعيدا عن عملهما معا خاصة أن نصف أعمالها تقريبا من تلحين السنباطي.
أم كلثوم التي ولدت بقرية طماي الزهايرة مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية في شارع داير الناحية لوالد يعمل مؤذنا لمسجد القرية الشيخ إبراهيم البلتاجي الذي اشتهر بأدائه للتواشيح وإحياء الليالي الدينية المقامة في قريته والقرى المجاورة، والتي أخذت عنه ابنته حلاوة الصوت وإتقان القصائد والتواشيح وتنافس أخاها خالد في سرعة الحفظ، وهي في العاشرة من عمرها بدأت الغناء ضمن بطانة والدها مرتدية الكوفية والعقال والبالطو مثل أخيها حتى لا تصطدم بالتقاليد التي تمنع البنات والنساء من الغناء في ذاك الوقت.
كان صوتها وشخصيتها الملهم الرئيسي للشاعر أحمد رامي تاريخ ميلاد أم كلثوم المثبت في الأوراق الرسمية هو 4 آيار 1904، ولكن هناك بعض المراجع ترجع تاريخ ميلادها الحقيقي إلى 20 كانون الأول 1898، ولكن سواء هذا أو ذاك لن يؤثر في تاريخ وتراث سيدة الغناء العربي التي استمع إليها الشيخ أبو العلا محمد، وبكى عندما تغنت بقصيدته "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا"، وأصر بعدها على تبني صوتها وإحضارها للغناء في القاهرة عام 1922، وكان له الفضل في انطلاقتها لرغم تعرف الشيخ زكريا أحمد على صوتها عام 1920 في إحدى ليالي رمضان وكان منه أن دعاها لتغني أمامه طوال شهر رمضان، وقال فيها "منذ ليلتها وأنا أصم لا أسمع إلا صوتها.. لقد أحببتها حب الفنان للحن الخالد الذي يتمنى العثور عليه".
وكان إلتقاؤها بالشاعر أحمد رامي بداية الطريق ونهايته وكونا ثنائيا فنيا خالدا. وكان صوتها وشخصيتها الملهم الرئيسي للشاعر أحمد رامي وغنت أول طقطوقة من كلمات بعنوان "قال إيه حلف ميكلمنيش" ولحنها لها الراحل محمد القصبجي.
وبالرغم من تعامل أم كلثوم أو ثومة حسب أول لقب لقبت به مع عدة ملحنين أمثال الشيخ أبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي إلا أن صوتها ارتبط بثلاثة أسماء منذ عام 1924 وهو تاريخ انطلاقتها الفنية في القاهرة؛ وهم الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي حتى جاء عام 1954، والتي قامت فيه بالبحث عن ملحن جديد لتجديد دماء فنها وطلبت من "الشجاعي" المسؤول الموسيقي بالإذاعة المصرية أن يرشح لها اسم ملحن جديد لتلحين كلمات "نشيد الجلاء" وعندما رشح لها اسم محمد الموجي قامت بطلب مقابلته وأرسلت إليه ولم يصدق نفسه واعتقد أنه ارتكب خطأ ما، خاصة أنه كان في بداية مشواره الفني الذي بدأه منذ 4 سنوات فقط وكانت أم كلثوم رئيسة لجنة الاستماع بالإذاعة المصرية في ذلك الوقت.
وذهب الموجي حسب رواية ابنه "الموجي الصغير"، وهو يتصبب عرقا ووجد الشاعر أحمد رامي في استقباله مما جعله أكثر ارتباكا ولكن ما أن علم بحقيقة الأمر حتى تحمس واستمع لكلمات نشيد الجلاء من فم الشاعر وذهب وعاد باللحن الذي يعتبر أول لحن لم تضف إليه الست أو تحذف أو تغير منه.
ويذكر الموجي الصغير أن محمد الموجي يعتبر رابع ملحن تتعامل معه أم كلثوم حتى أن الصحف في هذا الوقت كتبت قصة الملحن الرابع وراء أم كلثوم، وهو أيضا مَنْ فتح الباب أمام تعامل كوكب الشرق مع ملحنين آخرين مثل الراحلين بليغ حمدي وكمال الطويل إضافة للقائها مع محمد عبد الوهاب
"للصبر حدود" أول لقاء عاطفي بين الموجي والست...وأخذ لقاء الموجي بأم كلثوم في بدايته الصبغة الوطنية والدينية. ومن أهم الأعمال التي لحنها الموجي للست أعمال رابعة العدوية "الرضا والنور" و "حانة الأقدار"، والتي لم تقم أيضا بالتغيير فيهما، كما لحن لها أيضا "صوت بلدنا" و "يا سلام على الأمة" حتى جاء أول لقاء عاطفي بينهما كما سماه الموجي الصغير في لحن أغنية "للصبر حدود"، والتي كانت وراءها قصة طريفة، فالموجي اشتهر باختفاءاته المتكررة، وكان قد اتفق مع الست على تلحين كلمات "للصبر حدود"، ولكنه غاب ولم تفلح محاولات كوكب الشرق في العثور عليه فما كان منها إلا أنها رفعت عليه دعوى عبر المحكمة بتقاضيه عربون الأغنية وتوقيعه للعقد منذ شهر كامل بدون أي إنجاز، ووقف الموجي أمام المحكمة، وقال للقاضي "إذا حكمت فاحكم عليَّ بالتلحين"، وقام القاضي بتأجيل الحكم وإرجاء القضية وخرج الموجي من المحكمة متجها نحو منزل الست ليجدها تستقبله ضاحكة، وتقول له ماذا أفعل فإنني فشلت في العثور عليك. وقام بتلحين الأغنية التي لاقت نجاحا لافتا في ذلك الوقت.
قدمت أم كلثوم أول أفلامها السينمائية عام 1936 باسم "وداد" من إنتاج شركة مصر للتمثيل والسينما وعرض بسينما "رويال"، ومثل مصر في مهرجان البندقية وبدأت علاقتها بالسينما منذ هذا التاريخ حتى عام 1947 حيث قدمت فيه سادس وآخر أفلامها "فاطمة". وخلال هذه الفترة قدمت "نشيد الأمل" و "دنانير" و "عايدة" و "سلامة".
تزوجت أم كلثوم من الكاتب والصحافي الراحل مصطفى أمين، وكان زواجا سريا تم إعلانه العام الماضي فقط. وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو مَنْ يحتفظ بوثيقة الزواج. كما تزوجت أيضا الملحن محمود الشريف، ولكن أشهر زيجاتها مع الدكتور حسن الحفناوي عام 1954 والتي عاشت معه حتى وفاتها في 3 شباط 1975.
ولكن على الرغم من زيجاتها هذه، إلا أن كل من عمل معها وقع في غرامها من القصبجي ورامي حتى الحكومات والدول، ليس في العالم العربي فقط، بل في دول العالم. وليس بين المحبين والعاشقين فقط، ولكن بين المنتظرين على قائمة الحب حتى يستمتعوا به في عمق صوتها.